بقلم بين هيرد
إزالة الكربون العميقة.. إنه هدف يسهل إعلانه لكن تحقيقه سيكون صعبا جدا. حتى في حال كونك مؤيدا متحمسا لاستخدام التكنولوجيا النووية، فإن الحقيقة هي أنه لا يوجد حل كبير واحد للقضية بسبب عدم وجود مصدر كبير واحد لغازات الاحتباس الحراري علما أن انبعاثاتنا للغازات الكربونية تنجم عن مصارد ثابتة كثيرة منفصلة وموزعة بشكل لا يصدق، بدءا من الطرف الخلفي للسيارات وصولا إلى الطرف الأمامي للماشية.
ولدى مواجهة هذا الواقع، من المنطقي أن نحاول تقسيم المسألة إلى أجزاء أكثر قابلية للتتبع، ونجد أن القسط الأكبر من الاهتمام يركز على موضوع إزالة الكربون من شبكات الكهرباء. وهنا يمكننا على الأقل احتساب مصادر الانبعاث ووصفها، وهي عادةً كبيرة وبدائلها التكنولوجية وسهلة الوصول إليها. في عالم نبحث فيه عن الفاكهة المتدلية (حينما يحقق جهد قليل مكاسب كبيرة) يمكن تشبيه تنظيف شبكاتنا الكهربائية بالعثور على “بطيخ تكنولوجي”.
تحد أمام مسألة توفير الطاقة خارج الشبكة
فيما يتعلق بقضية إزالة الكربون وحلولها، يكمن أحد التحديات التي تتطلب معالجته في كيفية توفير الطاقة خارج الشبكة الموحدة أي الطاقة الكهربائية التي يتم توصيلها بعيدا عن الشبكات الرئيسية للكهرباء، سواء كان ذلك في مراكز سكنية صغيرة أو جزر أو مناطق التعدين والمناطق الصناعية النائية.
ربما تبدو الأرقام الخاصة بالمسألة كبيرة بشكل مخادع. قدرت الوكالة الدولية للطاقة المتجددة(IRENA) في تقرير صدر عام 2015 أن “قرابة 400 غيغاواط من الطاقة المولدة باستخدام الديزل (> 0.5 ميغاواط) قيد التشغيل، إما في منشآت صناعية ومناجم بعيدة تعتمد على وحدات طاقة احتياطية حيث إمدادات الكهرباء متقطعة، أو في شبكات كهرباء صغيرة تخدم مجتعمات محلية”.
في وقت يزداد فيه وبقوة استهلاك الطاقة خارج نطاق الشبكة الموحدة من خلال أنظمة الطاقة المتجددة التي تستخدم في الغالب لتلبية الطلب الجديد على الكهربة الجزئية السريعة، لا تزال التكنولجيا المتجددة تمثل استجابة جزئية فقط على التحد الأكبر. حسب تقديرات الوكالة الدولية للطاقة المتجددة يمكن “تهجين” حوالي 50-250 غيغيواط من الإجمالي المركب عن طريق مصادر الطاقة المتجددة، ما يعني الاستبدال الجزئي للوقود الأحفوري لجزء من القطاع فيما يظل الكثير من الأجزاء الأخرى دون حل.
التغيير النمطي
قد نتمكن في المستقبل القريب، من تحقيق نجاحات أكبر عن طريق استخدام المفاعلات النووية المعيارية الصغيرة (SMRs) التي يمكن أن تدعم التكنولوجيا المتجددة أو تندمج ضمن الحلول المختلطة أو تغطي في كثير من الحالات، الحاجة بالكامل تقريبا في الطاقة الموثوقة طويلة الأمد وبأسعار معقولة.
ومن المتوقع أن يصبح التعدين ومعالجة المعادن أحد القطاعات التي يرجح أن تقود عملية الدمج. بالنسبة لهذا القطاع، قد تكون حاجته للطاقة في مواقع معينة عالية، ويحتاج إلى إمدادات ثابتة وموثوقة من الطاقة. وتجعل الاستثمارات الضرورية في الموادر والمرافق قضية الطاقة الموثوقة مسألة حاسمة لعمليات التعدين. وفي العديد من المواقع، لا سيما في أقصى نصف الكرة الأرضية الشمالي، يقلل التموضع الجغرافي بحد ذاته من الدور المحتمل منخفض التكلفة لأنظمة الطاقة الشمسية الكهروضوئية. وفي العديد من المواقع الأخرى، يمكن أن تتعرض أنظمة الطاقة المتجددة للضرر جراء الظروف البيئية القاسية ما يثير تسائلات حول مدة خدمتها.
ويظهر التقدم المحرز في تنمية تكنولوجيات SMR أنها الحل المخلص من الكربون حيث تقدم هذه الأنواع من المفاعلات الصغيرة ردا يغير النمط المعتاد في حلول تحدي “إمداد الطاقة خارج الشبكة”، يضمن الإمداد والسعر والموثوقية والاستدامة. في العام الماضي، شهد العالم إنتاج أول دفعة من الطاقة ولدها مفاعل مركب على متن المحطة النووية العائمة الروسية “الأكاديمي لومونوسوف” التابعة لشركة “روساتم” للطاقة النووية المملوكة للدولة. والسفينة مجهزة بمفاعلين تبلغ قدرة كل واحد منهما 35 ميغاواط، وهو ما يكفي لإنتاج طاقة كهربائية وحرارية موثوقة تساوي 50 سعرة حرارية في الساعة على مدار السنوات الـ60 القادمة لصالح شبه جزيرة تشوكوتكا التي تعد منطقة تعدين رئيسية في شمال روسيا. ومن السهل التنبؤ بأن تصبح مثل هذه المحطات المتنقلة لتوليد الطاقة النظيفة التي تعمل في المحيطات، الحل المفضل بالنسبة لشبكات الكهرباء الواقعة في الجزر التي تعتمد على الإمدادات الخارجية من الديزل المكلف والملوث.
ابتكار لافت آخر يتمثل في محطة الطاقة “أورورا” (Aurora Powerhouse) بقدرة 1.5 ميغاواط من تصميم شركة “أوكلو” والمرخصة حاليا في الولايات المتحدة. وبإمكان المحطة توفير ما يصل إلى مليون طن من غاز ثاني أكسيد الكربون مقارنة بالطاقة المولدة بواسطة الديزل، وذلك بفضل مفاعل توليد سريع تتزود به المحطة ويتميز بطاقة إنتاجية أكبر نتيجة للوقود المستخدم وينتج كميات أقل من النفيات وأقل سمية. ما يتيح لها أن تعمل بموثوقية استثنائية لمدة 20 عاما متواصلة. وفي الواقع قد تكون فترة الخدمة أطول بكثير (وفقا لمعلوماتي). ونظام التبريد الجاف في المحطة له استهلاك صفري للمياه بل وحتى يمكن أن يسهم في ضمان الأمن المائي من خلال تحلية المياه ومعالجتها. وهنا يمكننا أن نتوقع مرة أخرى أن تكون مواقع التعدين والمجتمعات النائية من أوائل المتبنين لهذه التكنولوجيا، والتي تقدر حاليا تكلفة أول محطة لها بـ10 ملايين دولار.
الطاقة النووية للتعدين منخفض الأثر البيئي
إنني منخرط في موضوع الاستدامة لفترة طويلة بما يكفي لأعرف أن فكرة تقليل الأثر البيئي لقطاع التعدين قد تواجه معارضة على مستوى الانعكاس الارتدادي، وكأن غرضها الحقيقي يكمن في التخلص من هذا القطاع وأن الطاقة النظيفة الموثوقة تجعل مناقشة الموضوع أكثر صعوبة! وأتحدث حاليا استنادا إلى خبرتي عندما كنت شابا، لكن الآن نحن بحاجة إلى وضع هذه المفاهيم الخاطئة جانبا. ستتطلب التحديات المتعلقة بالانتقال إلى نظام الطاقة النظيفة من الكربون، بغض النظر عن التقنيات المتوفرة، استثمارات هائلة في البنية التحتية الجديدة، سواء كانت محطات توليد الطاقة أو الألواح الشمسية أو خطوط الكهرباء. في بداية تلك الرحلة، كانت هناك معادن يتم استخراجها من باطن الأرض وقد تجد طريقها أيضا إلى التكنولجيا الخضراء مثل بطاريات السيارات الكهربائية، ولذلك من الأفضل لنا أن نتعلم من ذلك وأن نجعلها نظيفة ومنخفضة التأثير قدر الإمكان.
عندما تسهّل الإمكانات التي توفرها التكنولوجيا النووية الوصول إلى الوقود الأحفوري استخدامها، فإننا نواجه بالفعل معضلة حقيقية. إنني أؤكد أنه ينبغي علينا أن نتغلب على هذا التحدي لا الهروب منه. سنتوقف عن استخراج الوقود الأحفوري مثل الفحم والنفط والغاز، بمجرد الحصول على بدائل أفضل وأرخص وأكثر وفرة وموثوقية. وتقدم التكنولوجيا النووية المتقدمة سبيلا إلى هذه الغاية بالطاقة وتشحن سياراتنا وتصنع كميات وفيرة من الهيدروجين والوقود الاصطناعي الذي ببساطة أنظف وأرخص وأفضل من النفط الأحفوري. ويتوقع أن تصبح تكنولوجيا SMRs المتقدمة التكنولوجيا الأكثر اختراقا في مجموعة أدوات الاستدامة حيث ستخفض الانبعاثات الحرارية وستوفر الطاقة الموثوقة لأماكن الطلب عليها.
في غضون بضع سنوات فقط قد تصبح مهمة التخلص من غاز الكربون أكثر واقعية بفضل هذه الإنجازات التكنولوجية. وسيكون جعل عمليات التعدين أكثر استدامة وخالية من الكربون انطلاقة جيدة جدا للبدء بالسير على هذا الطريق.
المصدر: موقع ساستانيبيليتي تايمز